وعد بلفور من خلال رسائل حاييم وايزمان
لقد جُمعت رسائل حاييم وايزمان في ثمانينيات القرن الماضي في ثلاثة وعشرين مجلدا من الحجم الكبير، وكل مجلد يحوي على حوالي خمسمائة صفحة، ذلك انه نذر حياته، وعمل من دون كلل أو ملل، لهدف واحد الا وهو اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، واستبدال الهوية الدينية بهوية قومية عرقية عنصرية واستعمارية تطالب بأرض «سوراقيا»*.
فمشروع «اسرائيل الكبرى» لا يقف عند حدود فلسطين (1)، بل يريد ارض الهلال الخصيب بكاملها كما تبين كتابات الصهيونيين، ومنها رسائل حاييم وايزمان حول قرارات سايكس ــــ بيكو. فلقد كتب وايزمان مثلا رسالة موجهة الى رئيس وزراء بريطانيا، لويد جورج، الذي كان متواجدا في مؤتمر فرساي عام 1919 لتقرير مصير سوراقيا، يقول فيها:
«منذ البداية وضعت المنظمة الصهيونية، المتطلبات الاساسية بحدها الادنى لقيام وطن قومي لليهود، لذلك من البديهي الا يقبل الصهيونيون البتة حدود سايكس ــــ بيكو، ذلك انها تستثني نهري الليطاني والاردن، ما يقف حائلا أمام استيلاء الوطن القومي اليهودي على المناطق الغنية الممكن استعمارها في هضبة الجولان وسهل حوران، والتي يتوقف عليها نجاح المشروع الصهيوني» (2).
لم تستطع المنظمة الصهيونية بلوغ حلمها مع سايكس ــــ بيكو، لكنها أنجزت المهمة حرباً عام 1967 حين استولت على الجولان واعتبرته أرضا يهودية أبدية، ثم اجتاحت جنوب لبنان عام 1982. ولولا فعل المقاومة لكان الجنوب ما يزال رازحا تحت حكم الكيان الصهيوني، ولكان هذا الاخير عمل على تهجير ابنائه واستبدالهم بيهود يستوطنون المكان.
لم يدخل اليهود الى منطقتنا على أساس ديني، بل بهدف «اقامة وطن قومي للشعب اليهودي»، كما جاء في وعد بلفور عام 1917، فيما هذه المنطقة تعاني من حكم السلطنة العثمانية، فلا وجود لجيش وطني ومن ضمنه فلسطين، ولا لمؤسسات مستقلة، بل انتقال من هيمنة الامبراطورية الدينية العثمانية الى استعمار دول غربية قومية التوجه.
تأسس وعد بلفور على كذبة فاضحة. اذ لا وجود «لشعب يهودي»، كما لا وجود لشعب «مسيحي» أو «اسلامي». فكلمة شعب تختص بالدولة الوطنية/ القومية، أما الدين فموجود ضمن الشعوب كافة، فنحن نجد مسلمين هويتهم أميركية أو فرنسية أو المانية، ونجد مسيحيين هويتهم فلسطينية، وكذلك اليهود كانوا موجودين ضمن البلدان العربية كعرب. اليهودي الصهيوني الذي أدلج لدولة قومية لليهود، كان يريد حقاً إلغاء الوجود الفلسطيني، لا العيش ضمن الهوية الفلسطينية. أما نحن، فكنا في عصر ما قبل القومية، وننظر الى هؤلاء القادمين على أساس دينهم لا مشروعهم القومي. فاليهودي، كالمسيحي والمسلم، قد ينتمي إلى أي دولة من دول العالم، بينما الصهيوني يريد انشاء مستعمرة عنصرية تضم اليهود كعرق وليس كدين… إلا ان مقولة ان اليهود يؤلفون شعباً واحداً، تدحضها الوقائع: فاليهود ليسوا شعباً واحداً اليوم، ولم يكونوا شعباً واحداً في الماضي. ولقد فضح المؤرخ الاسرائيلي شلومو ساند خرافة «الشعب اليهودي»، اذ أكد أن لا وجود «لشعب» يهودي، أو «عرق قومي يهودي» يعود الى أيام التوراة. فهذه أكذوبة اخترعتها الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر للسطو على اراض في المشرق العربي مع نهاية سلطان العثمانيين (3).
نجاح الصهيونية في تنفيذ وعد بلفور
عمل قادة اليهود الصهاينة لمدة ثلاثين عاما لتنفيذ وعد بلفور، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تواصلوا بشكل يومي مع دوائر بريطانيا العليا، وفرنسا، والولايات المتحدة، واعترفوا بأنهم يتابعون مسعاهم مع الدول الكبرى لأن مصير سوراقيا ليس في يد ابنائها. وكانت الحركة الصهيونية تعرف ان الملوك والرؤساء الذين وضعتهم بريطانيا على رأس الدول العربية قبلوا سلفاً اقامة كيان صهيوني، لذلك لعب الشريف حسين وأولاده كما ابن سعود، دورا مساندا للاستعمار البريطاني واقامة دولة «اسرائيل»، بدلاً من دعم الفلسطينيين.
تعج رسائل حاييم وايزمان بايراد المستندات التي تؤكد تخلي ابن سعود، والشريف حسين، واولاده الثلاثة: عبد الاله، وعبدالله وفيصل عن الدفاع عن فلسطين. وحين شارك الامير فيصل في مؤتمر فرساي عام 1919، منتدَبا من والده، وقع على وثيقة يعلن فيها اعطاء فلسطين لليهود لاقامة دولة قومية لهم مقابل أن يصبح ملكا في المشرق العربي (4).
وفي ما بعد، ظل الملك فيصل، ابن الشريف حسين، يزور وايزمان في لندن ويجري مباحثات معه من اجل اسكات الفلسطينيين واقناعهم بالوطن القومي اليهودي. ووصل الامر بالملك واخيه الاميرعبدالله الى وعد المنظمة الصهيونية بأنهما سيعملان على اقامة مستوطنات يهودية ليس فقط في فلسطين بل في الاردن والعراق أيضاً. وباشرت بعض القبائل في الاردن بالترحيب بوجود مستعمرة يهودية بينها، كقبيلة بني صقر التي باعت اليهود بعضا من اراضيها عام 1925 (5).
وحين بدا عام 1922 أن الفرنسيين قد ينسحبون من سورية بسبب مقاومة هذه الاخيرة لهم، هب قادة المنظمة الصهيونية لمنع الانسحاب الفرنسي لأن ذلك سيزيد من قوة سوراقيا ويضعف امكانية نشوء دولة «اسرائيل» (6)، لذلك أشدد دائما ان تقسيمات سايكس ــــ بيكو عام 1916، ملازمة لوعد بلفور عام 1917، ولولا تقسيم سوراقيا الى دويلات ضعيفة لما استطاعت الصهيونية الاستيلاء على فلسطين (7).
لم تكتفِ المنظمة الصهيونية بالتنازل الضمني عن فلسطين من قبل الملوك العرب الذين اوصلتهم بريطانيا الى سدة الحكم، بل سعت الى لقاء القادة العرب المتواجدين في دول سوراقيا لاقناعهم بالدولة اليهودية. ومن الشخصيات التي التقت بها ضمن وفد سوري: حبيب لطف الله، وشكيب ارسلان، واحسان جبري، فيما رفض الوفد الفلسطيني الانضمام إلى هذا اللقاء. وفي عام 1922 التقى وفد صهيوني في القاهرة برشيد رضا، كامل القصاب، رياض الصلح واميل خوري، وكلهم ممثلون عن حزب الاتحاد السوري، وكان هدف اللقاء وضع اسس لتفاهم عربي ــــ صهيوني (8).
أما رئيس اللجنة العربية العليا، عوني عبد الهادي المصري، فإنه التقى حاييم وايزمان عام 1922، ووعد باقناع الفلسطينيين بالقبول بكانتون يهودي وآخر فلسطيني، كذلك تبرع البطريرك عريضة وبعض المسؤؤلين اللبنانيين بدعم القضية الصهيونية (9).
ثابر اليهود الصهيونيون على تطمين بريطانيا بأن علاقاتهم مع الفلسطينيين ستكون أخوية ومسالمة للسماح لهم بتوطين اعداد كبيرة من المهاجرين اليهود الغربيين. وكان توجس الصهيونية في محله، اذ انه ما ان اندلعت ثورة 1936، وأُعلن الاضراب العام، حتى أخذت الدولة البريطانية تتساءل عن جدوى تطبيق وعد بلفور.
سارع القادة الصهيونيون الى الاتصال مباشرة بالملوك الذين نصبتهم بريطانيا في الجزيرة العربية وفي المشرق العربي، وكلهم يتحدرون من الجزيرة العربية وهم: ابن سعود، الملك غازي في العراق، والامير عبدالله في الاردن، وهذان الاخيران ابنا الشريف حسين، شريف مكة. فما كان من هؤلاء الملوك الا أن بعثوا برسالة عاجلة الى اللجنة العربية العليا طالبين منها وقف الثورة والاضراب، وهذا ما حدث في الحادي عشر من تشرين الأول عام 1936 (10).
بعد وفاة الملك فيصل عام 1933، حاول نوري السعيد، وزير خارجية العراق، أن يقدم حلا يرضي البريطانيين، وهو انشاء «فدرالية الدول العربية» المؤلفة من دول المشرق العربي والجزيرة العربية، في مقابل اعطاء تسهيلات كبيرة للوجود اليهودي الغربي في فلسطين، شرط ان تتوقف الهجرة اليهودية. دعمت اليمن مشروع نوري السعيد ورفضه ابن سعود، وكذلك فعل بن غوريون وحاييم وايزمان لأنه يعني نهاية المشروع الصهيوني لانشاء «دولة قومية يهودية»، وهي الهدف الاساس للحركة الصهيونية (11). وفي عام 1937 التقى وايزمان وموشي شرتوك وبن غوريون مع وفد «سوراقي» بهدف اقناعه بقبول الكيان الصهيوني في فلسطين، وتألف هذا الوفد من: جميل مردم بيك، عبد الرحمن الشهبندر، اميل اده، نوري السعيد، رياض الصلح، وشكيب ارسلان (12).
مع بداية الحرب العالمية الثانية لاحت الفرصة ثانية أمام امكانية تحرر الفلسطينيين من المشروع الصهيوني لو قاوموا بالسلاح وبالقوة الوجود البريطاني على أرضهم. اذ ان البريطانيين كانوا عاجزين آنذاك عن منازلة أعدائهم الاوروبيين على جبهات مختلفة. وباءت كل محاولات الحاج أمين الحسيني في استقطاب مساعدة للفلسطينيين بالفشل. اذ ان الصهاينة حاصروه ثم نفوه خارج فلسطين (13)، كما ان رئيس وزراء بريطانيا السير ونستون تشرتشل، وهو من كبار مناصري الصهيونية، سارع الى الضغط على ابني الشريف حسين، ملكي العراق والاردن، وهددهما بخسارة مملكتيهما ان هما تحركا لصالح فلسطين. أما بالنسبة إلى ابن سعود، فلقد وعده تشرشل «بتنصيبه ملكاً على الدول العربية قاطبة، واستعماله لقب ملك الملوك، شرط ان يسلم فلسطين لليهود» (14).
وعد تشرشل ابن سعود «بتنصيبه ملكاً على الدول العربية قاطبة، شرط ان يسلم فلسطين لليهود»
ومن المؤسف أن نرى ان المنافسة بين الشريف حسين واولاده من جهة، وابن سعود من جهة أخرى، أدت الى تباريهم في تقديم تنازلات للبريطاني وعلى رأسها التنازل عن فلسطين. ولقد أكد حاييم وايزمان أن «ابن سعود يحتقر عرب فلسطين، وهو حاضر لأن ينفذ ما يطلبه منه البريطانيون» (15).
يتبين مما أوردناه أن الحركة الصهيونية عملت على خطوط متعددة لتنفيذ وعد بلفور، وأول ما فعلته هو تغيير اسمها من «الوكالة اليهودية» إلى «المنظمة الصهيونية»، أي الغاء المحتوى الديني واستبداله بمشروع استعماري بحت، وعمل وايزمان جاهداً لاقناع الحكومة البريطانية بهذه المنظمة التي اعترفت بها الحكومة البريطانية رسمياً عام 1922، وهذا أمر شديد الاهمية لأنه يعني ان بريطانيا العظمى قررت الاعتراف بوجود منظمة تُعنى بالشأن القومي للعرق اليهودي كمستوطنين لأرض فلسطين، أي ايجاد كيان صهيوني وعدم النظر الى اليهودية كبقية الاديان، والبرهان على ذلك ان نصف سكان الكيان الصهيوني ملحدون، وغير ملتزمين بالدين اليهودي، وغالباً ما تنشب مشادات بينهم وبين اليهود المتدينين في الولايات المتحدة بسبب ذلك (16).
ثانياً، أمّنت المنظمة الصهيونية تمويلا لشراء الأراضي في فلسطين، من أجل اقامة وطن خاص لليهود، قدمه يهود أمثال روثتشايلد في بريطانيا، ومتمولون يهود اميركيون. وحجم الاراضي التي استحوذت عليها الصهيونية ضخم جدا. ففي احدى الحالات تم شراء ثلاثمائة الف دونم دفعة واحدة حول بحيرة الحولة، وتهجير عشرة آلاف فلسطيني باتجاه سورية، كما تم البحث مع الحكومة البريطانية ورئيس الولايات المتحدة روزفلت في امكان تطهير عرقي شامل لنقل «عرب فلسطين» إلى العراق (17).
ثالثاً، سعى القادة الصهاينة الى اعطاء الانطباع للدول الغربية بأن العرب، ومن بينهم «عرب فلسطين»، لا يمانعون البتة بوجود اليهود في ما بينهم. وعمدوا في المرحلة الاولى للهجرة اليهودية حين كانت أعدادهم قليلة إلى تهدئة الاوضاع في فلسطين كي لا تثير القلاقل هواجس البريطانيين (18).
رابعاً، اشتغلت الوكالة اليهودية على القيادة البريطانية ولمدة نصف قرن لاقناعها بضرورة ايجاد وطن قومي لليهود الغربيين في فلسطين. وكان المثقفون الصهاينة الغربيون يحيطون بالوزراء البريطانيين ويتصلون بهم يومياً لاقناعهم بتنفيذ وعد بلفور، وازدادت حظوظ اقامة دولة «اسرائيل» حين اندلعت الحرب العالمية الثانية. اذ ان بريطانيا وجدت نفسها تخسر الحرب وهي بحاجة الى من يؤازرها، وهنا تدخل القادة الصهاينة لوضع شرط القبول بالمستوطنة الصهيونية على أرض فلسطين وتنفيذ وعد بلفور، مقابل المساندة الاميركية لبريطانيا، ذلك ان يهود أميركا الذين دعموا الصهيونية كانوا يتبوؤن مراكز عالية في الحكم كما هي الحال في يومنا هذا.
ومنذ ذلك الحين دأبت المنظمة على الالتقاء دورياً بأعضاء الحكومة البريطانية، وتحويلهم إلى مناصرين للصهيونية. ومن المفجع والمأساوي الاعتراف بأن المنظمة نجحت نجاحاً باهراً. فدعَمها بكل قوة رئيس وزراء بريطانيا، تشرشل. كما اسس لورد بلفور لوجود «إسرائيل» بتحويل وعده الى سياسة بريطانية رسمية. وساهم اللورد سايكس الذي قسم منطقة الهلال الخصيب مع الفرنسي بيكو، في ما عُرف باتفاقية سايكس ــــ بيكو، في تنفيذ وعد بلفور على أرض فلسطين بعزلها عن بلاد الشام، وتركِها لقمة سائغة للصهاينة. كما ان سايكس التقى بالشريف حسين وأولاده مرات عدّة، وحصل منهم على الاعتراف بأحقية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وسايكس هو الذي عين ت. اي. لورنس، أو لورنس العرب، كما اشتهر لاحقا، مرافقا للأمير فيصل ابن الشريف حسين، ولورنس من أشد المناصرين للقضية الصهيونية. واعترف حاييم وايزمان أنه لولا الدور الأساس الذي لعبه اللورد سايكس، لما اصبحت «اسرائيل» واقعاً حقيقياً على أرض فلسطين (19).
تقسيم فلسطين الى دولتين
أول من طالب بتقسيم فلسطين الى دولتين هم اليهود الصهيونيون، فيما كان الفلسطينيون يرفضون ذلك، فلماذا انقلبت الادوار اليوم حسب تصريحات رئيس وزراء «اسرائيل» بينيامين نتنياهو، ورئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب؟
في ثلاثينيات القرن الماضي كانت هجرة اليهود الاوروبيين محدودة عدديا، لذلك حاول الفلسطينيون ابقاء فلسطين موحدة بالرغم من وجود هذه العناصر الاجنبية، بينما كان الصهيونيون يصرون على التقسيم لأنه سيحقق حلمهم باقامة «دولة قومية» لليهود. فما يريده الصهاينة ليس تواجدا لليهود على أرض فلسطين، بل تغييرَ الواقع من دولة فلسطينية الى اختراع دولة «لشعب يهودي»، لا وجود له قبل تأسيس «اسرائيل»!
ومن أجل بلوغ هذا الهدف توقف الصهاينة عن استعمال كلمة فلسطين أو الفلسطينيين، واستبدلوها بكلمة العرب، ما يسهل تهجير «العرب» (اي الفلسطينيين) الى مناطق عربية. وكل مقاومة لهذا التهجير كمقاومة عز الدين القسام، لم تكن تُنسب الى فلسطينيين بل «إلى عصابة اسلامية متطرفة» (20).
بعد قمع الملوك والامراء العرب للثورة الفلسطينية، بقي بصيص أمل لعكس الاوضاع ضمن الخارجية البريطانية على مشارف 1940 وبدء الحرب العالمية الثانية. اذ كانت بريطانيا تتهيب النزاع القائم وتريد أن تصب جهودها كاملة في الحرب ضد المانيا. فقد تصدرت الجرائد البريطانية، ولأول مرة، العام 1938، عناوين حول تخلي بريطانيا عن مشروع تقسيم فلسطين مخافة ردات فعل في العالم العربي. وما ساهم في هذا المنحى هو تواجد W. A. Smart كسكريتير مسؤول عن المشرق العربي في الخارجية البريطانية، كونه زوج أخت جورج انطونيوس مؤلف الكتاب الشهير: «يقظة العرب». كذلك انبرى مركز دراسات Chatham House في جامعة اوكسفورد برئاسة المؤرخ الموسوعي ارنولد توينبي، والسير هاملتون غيب، إلى مساندة العرب، ورفض المشروع الصهيوني، وساعدهم في ذلك الدكتور ألبرت حوراني الذي ترأس الجمعية العربية ــــ البريطانية ضمن جامعة أوكسفورد، ما أثار حفيظة الصهاينة الذين باشروا بحملة ضدهم أدت الى أقالتهم من مناصبهم وحلول بريطانيين موالين لدولة قومية صهيونية محلهم (21).
ساند الشريف حسين واولاده الثلاثة كما ابن سعود المسعى الصهيوني لاقامة دولة «اسرائيل» على كامل الارض الفلسطينية كما رأينا. وهم أصلا نُصبوا ملوكاً وامراء على سوراقيا والجزيرة العربية بعد قبولهم التام الانصياع للارادة البريطانية في ما يتعلق بالاستعمار، أي الانتداب البريطاني على المشرق العربي. وفيما قبل آل شريف حسيني وآل سعود التنازل عن فلسطين برمتها، قررت مصر تسويق مشروع تقسيم فلسطين في السر كما اسرّ رئيس وزرائها، علي ماهر، لحاييم وايزمان عام 1946، وكذلك فعلت الجامعة العربية (22).
لكن اليوم، وبعد أن اسست الصهيونية دولة قومية عنصرية لليهود، لم تعد بحاجة للمطالبة بالتقسيم، واصبح هدفها ابتلاع فلسطين بكاملها، وهذا ما يأمله رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.
لقد آزرت بريطانيا القضية الصهيونية وتأسيس «اسرائيل» طوال سنوات القرن الماضي (23)، واليوم تعلن رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي أنها تشعر بالفخر لأن بريطانيا ساهمت في تنفيذ وعد بلفور، وانها ستقيم احتفالا خاصا بمناسبة مرور قرن على هذا الوعد (24).
كذلك فعل جميع رؤساء الولايات المتحدة الذين لا يأبهون لمأساة الفلسطينيين، بل يريدون المحافظة على مكاسبهم في المشرق العربي وسيطرتهم على النفط والغاز عبر مستعمرتهم الإسرائيلية.
إن مشروع تقسيم فلسطين وقبول السلطة الفلسطينية به كما تفعل اليوم يعني الاعتراف النهائي بأن لاسرائيل الحق بأرض فلسطين، وهذا مناف للحقيقة والتاريخ. أما وجود دولة ثنائية القومية فسيحول «اسرائيل» الى دولة عنصرية تقمع مواطنيها، وتنزع صفة الديمقراطية عنها. وفي وضع كهذا، لن يكون مطلوبا من الفلسطينيين التخلي عن حق العودة كما هو حاصل في مشروع الدولتين، والأهم من ذلك كله أن إجبار الفلسطينيين على العيش في دولة الأبرتايد سيسمح لهم بالإمساك بورقة أساسية لوجودهم، إلا وهي رفض الوجود الصهيوني على أرض فلسطين بأكملها.
وفي الحالتين، أي في حالة تقسيم فلسطين الى دولتين، أو في حالة فرض دولة ثنائية القومية، فإن الصراع قائم بين الفلسطينيين يؤازرهم محور المقاومة من جهة، و«اسرائيل» وخلفها الولايات المتحدة من جهة أخرى. ذلك أن المستعمرة «الاسرائيلية» ستظل تتوسع وتقضم الاراضي وتدخلها ضمن الكيان الصهيوني، كما تفعل في هضبة الجولان اليوم، وهي ترفض وضع دستور يخطّ حدودها الجغرافية لأن نظرها يرنو إلى «اسرائيل الكبرى»، أي الاستحواذ على سوراقيا بأكملها.
ممارسة فعل المقاومة ضد وجود الكيان الصهيوني هو الطريق الوحيد لالغاء مفاعيل وعد بلفور، مع العلم أن التاريخ البشري برهن أن لا امكانية لديمومة أي مستعمرة، وان زوالها حتمي مع مرور الزمن، عاجلاً أم آجلاً.* باحثة وأستاذة جامعيّة