حينما يكون العراق المحطة الخارجية الأولى للرئيس الإيراني الجديد
أعلنت أوساط سياسية وإعلامية إيرانية حكومية وغير حكومية، أن الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، سيزور العراق منتصف شهر أيلول/ سبتمبر المقبل، تلبية لدعوة رسمية تلقاها من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
وستكون هذه الزيارة في حال تحققت، المحطة الخارجية الأولى للرئيس بزشكيان بعد توليه المنصب ونيل حكومته ثقة مجلس الشورى الإسلامي الإيراني (البرلمان).
ولا شك أن ذلك ينطوي على دلالات مهمة، ويؤشر إلى حقائق جوهرية، حول رؤية طهران للعلاقات العراقية – الإيرانية، بصرف النظر عن هوية من يشغل منصب الرئيس في إيران، وبصرف النظر عن الكثير من التجاذبات والمشاكل والأزمات في المشهد السياسي العراقي العام. بتعبير آخر، تولي طهران أهمية كبيرة جدًا لبغداد، مثلما تولي الأخيرة ذات الأهمية لطهران، لاعتبارات ودواع وأسباب مختلفة.
وفي الثامن من شهر تموز/يوليو الماضي، وبعد إعلان فوزه بالانتخابات، قال بزشكيان خلال اتصال هاتفي مع الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، “إننا نولي أهمية كبيرة لبلد العراق العظيم، وإن البلدين -يقصد العراق وإيران- لديهما وجهات نظر ومواقف مشتركة في العديد من المجالات، وهو ما يناسب تعميق العلاقات وتطوير التعاون”.
ولعل هذه إشارة واضحة من الرئيس الايراني الجديد على حرصه لإدامة وتعزيز العلاقات والروابط مع البلدين الجارين في كل الجوانب والمجالات، بما ينسجم مع مصالح الطرفين، وبما يسهم في تعزيز الأمن والسلام في المنطقة، وكذلك تقوية وترصين جبهة المقاومة، التي يعد كل من العراق وإيران، أطرافًا محورية ومؤثرة فيها.
ومن خلال تتبع مسيرة العلاقات العراقية-الايرانية على امتداد العشرين عامًا المنصرمة، يمكن تحديد ثلاثة مستويات لهذه العلاقات، مستوى يتمثل بالتوافق والتفاهم والانسجام في الرؤى والمواقف والتوجهات في الإطار العام الشامل، رغم وجود العراقيل والمعوقات من هنا وهناك، وقد برز ذلك واضحًا على صعيد التعاون والتنسيق في محاربة الإرهاب، سواء تنظيم القاعدة أو تنظيم “داعش”، إذ إن دور إيران في مساعدة العراق بهذا الجانب، كان محوريًا وحاسمًا في كثير من الأحيان، وهذا ما أقر به الساسة والمسؤولون العراقيون قبل الإيرانيين.
أما المستوى الآخر، فيتمثل بوجود عقد وإشكاليات الى جانب التوافقات والتفاهمات، وهذا نجده في ما يتعلق بالملفات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، وتلك العقد والإشكاليات غالبًا ما يكون طابعها فني، وإن كان بعض دوافعها ومحركاتها سياسية، وهذه لا تؤثر في الثوابت والمبادئ التي تستند إليها، ويتحرك على ضوئها إيقاع العلاقات بين بغداد وطهران، كما هو الحال مع ملف تصدير الغاز الإيراني للعراق واستحقاقاته المالية المتلكئة في أغلب الاحيان.
في حين يتمثل المستوى الثالث، بقضايا خلافية عالقة تعود جذورها إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ترتبط بترسيم الحدود وتعويضات الحرب (1980-1988)، ومصير ما تبقى من الأسرى والمفقودين من الطرفين، فضلًا عن مشكلة الحصص المائية في الأنهار المشتركة.
وبالرغم من عدم حسم ملفات المستوى الثالث، إلا أنها في واقع الحال، لم تشكل عائقًا حقيقيًا أمام استثمار الفرص والأفاق المتاحة لتحقيق أكبر قدر من المنفعة لكلا الطرفين، فحجم المبادلات التجارية السنوية، الذي تجاوز العشرة مليارات دولار خلال الأعوام القلائل الماضية، بحسب مصادر رسمية وغير رسمية، وازدهار السياحة الدينية والطبيعية، وتنامي التعاون في قطاعات البناء والإعمار والصحة والتعليم، كل ذلك وغيره، يؤشر إلى أن كل من طهران وبغداد تدركان أهمية التركيز على نقاط الالتقاء أكثر من التوقف كثيرًا عند نقاط الافتراق.
من هنا فأن حكومة بزشكيان، لا بد أن تحرص على عدم التفريط بما هو متحقق من مكاسب وإنجازات في مسيرة العلاقات مع بغداد، وهذا ما أشار إليه الرئيس بزشكيان، وكذلك ما أشار إليه الرئيس الراحل السيد إبراهيم رئيسي بعد توليه المنصب في منتصف عام 2021، وما شدد عليه رؤساء إيران السابقين.
في مقابل ذلك، فإن أصحاب القرار في بغداد، ينظرون بعين الأهمية إلى إدامة وتعزيز العلاقات مع طهران، وخلال زيارته للأخيرة في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2022، أكد محمد شياع السوداني، “أن العراق لا ينسى دعم إيران له منذ عام 2003 ومحاربة عصابات “داعش” الإرهابية، وأن الزيارات واللقاءات ضرورية للدفع بتفعيل النشاطات في جميع المجالات”. وثمن السوداني في حينه “موقف إيران الداعم للعراق في إمدادات الغاز”.
ولا شك أن الملفات التي سوف يبحثها ويناقشها الرئيس بزشكيان مع كبار المسؤولين العراقيين بعد ثلاثة أسابيع، هي ذاتها التي دومًا ما كانت حاضرة على طاولة الحوار العراقي- الإيراني، على كل الصعد والمستويات، وفي كل الجوانب والمجالات.
فهناك المصالح الاقتصادية المشتركة والمتبادلة، وهناك التحديات الأمنية، وهناك زيارة الأربعين وما ينبغي على البلدين فعله والتنسيق بشأنه لتحقيق المزيد من النجاحات فيها، وهناك المواقف السياسية المتطابقة حيال جملة من القضايا والشؤون الإقليمية والدولية، لعل في مقدمتها دعم القضية الفلسطينية ومؤازرة الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الكيان الصهيوني الغاصب، فضلًا عن السعي لإنهاء الوجود الاميركي في العراق.
إلى جانب ذلك، فإن بغداد اضطلعت بدور إيجابي فاعل في حلحلة الأزمات بين طهران وأطراف إقليمية ودولية، علمًا أنها، خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية، تحركت بهذا الاتجاه، ونجحت في جمع ممثلين عن الحكومتين الإيرانية والسعودية حول طاولة واحدة، وسط ترحيب وارتياح من طهران والرياض. ولا شك أن انفراج الأزمات وحلحلة المشاكل بين هذين الخصمين التقليديين، كان له انعكاس إيجابي ملموس على مجمل الوضع العراقي وأوضاع المنطقة.
وكلما كانت علاقات بغداد وطهران راسخة، ومساراتها محددة وواضحة، وطبيعتها استراتيجية عميقة، كلما انعكس ذلك إيجابيًا على الحراك في الفضاءين الإقليمي والدولي، وبالتالي، حلحلة الكثير من العقد والاشكاليات.
سيأتي الرئيس بزشكيان إلى بغداد، والعلاقات العراقية – الإيرانية تكون قد تجاوزت نطاق الدوائر السياسية والدبلوماسية الخاصة، والمساحات الاقتصادية والمالية المحصورة في نطاق الشركات والمؤسسات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال، إلى الفضاءات الاجتماعية والدينية والثقافية والأكاديمية المختلفة، وما مناسبة عظيمة مثل زيارة الأربعين إلا مصداقًا بارزًا، أظهر البعد الشعبي ذي الأفق الواسع للعلاقات بين الجانبين.
بعبارة أخرى سيأتي بزشكيان لإكمال طريق طويل قطع فيه الذين سبقوه أشواطًا طويلة، ومحطات كثيرة، ومراحل عديدة.