كيف يخفي جيش الاحتلال خسائره البشرية ولماذا؟
إنها “الكارثة”، هكذا عبر قادة جيش الاحتلال السياسيين والعسكريين، عقب الإعلان عن مقتل 24 عسكريًا في معارك قطاع غزة مع فصائل المقاومة أمس الاثنين 22 كانون الثاني/يناير 2024، وتسابقوا للتعبير عن حجم الأسى والحزن الذي أصابهم جراء هذه الواقعة، وهذه من المرات النادرة التي يعترف فيها جيش الاحتلال بمقتل هذا العدد من الجنود في يوم واحد، إذ إن سياسته تعتمد على محاولة إخفاء حجم خسائره والتمويه عليها ما استطاع.
في كيان الاحتلال تخضع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر، وهو قرار ملزم يتم بموجبه منع نشر أي معلومات عن القتلى سواء من وسائل الإعلام، أو من المؤسسات الرسمية، أو من المستوطنين، كما يمنع الاحتلال وسائل الإعلام الصهيونية من تداول ما تنشره فصائل المقاومة من مقاطع مصوّرة تظهر استهداف الجيش وتكبيده الخسائر.
في العاشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي خالفت صحيفة “يديعوت أحرنوت” هذه السياسة، ونشرت تقريرًا صادمًا عن خسائر جيش الاحتلال في الحرب على غزة، وقالت فيه إن عدد الجنود الجرحى بلغ نحو 5 آلاف، من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، لكن الصحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعدادًا أقل من ذلك بكثير.
وفي اليوم ذاته، كشفت صحيفة “هآرتس” أن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه جيش الاحتلال، وما تظهره سجلَّات المستشفيات، مشيرةً إلى أنَّ العدد الذي أعلن عنه الجيش هو 1600 جريح، بينما تظهر القوائم التي أعلنت عنها المستشفيات أنها استقبلت 4591 جريحًا خلال الفترة نفسها.
وفي تأكيد لهذه المعلومات، تحدثت وسائل الإعلام الصهيونية عن خسائر فادحة تفوق هذه الأرقام بكثير، وقالت إن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وإن المقابر تستقبل أعدادًا هائلة من الجثث.
من جهته/ عضو كابينت الحرب الوزير بيني غانتس أقرّ بأن الصور القادمة من معركة قطاع غزة مؤلمة “ودموعنا تتساقط عند رؤية جنود لواء جفعاتي يسقطون”.
ويتكتّم جيش الاحتلال بصورة كبيرة على خسائره، وتحديداً البشرية، في المعارك الدائرة في قطاع غزة، لعدة أسباب، أهمها محاولته الحفاظ على معنويات الجنود على خط المواجهة من الانهيار، وتخفيف وقع الصدمة على الجمهور الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك للمحافظة على السمعة التي بناها جيش الاحتلال عن نفسه داخل “إسرائيل” وحول العالم، خصوصًا بعد أن حطمت المقاومة الفلسطينية صورته في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
كما يسعى من خلال ذلك إلى عدم إثارة الرأي العام ضد القيادة السياسية والأمنية، والتحسب من توليد ضغط سياسي وشعبي لإنهاء الحرب.
هكذا يخفي جيش الاحتلال خسائره
يعتمد جيش الاحتلال سياسة ضبابية في الإعلان عن خسائره البشرية في غزة، عبر عدة طرق منها إخضاع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر.
كما يخدع جيش العدو “الجمهور الإسرائيلي” بقوله إنه لا يتم الإبلاغ عن العدد إلا بعد إخبار عوائل القتلى، لأن الإعلان عن العدد لا يقتضي ذكر الأسماء. وهنا يجدر الذكر أنَّ قوائم القتلى التي تصدرها المؤسسة العسكرية تستثني شرائح عديدة من القتلى.
كذلك، يعرض جيش الاحتلال أموالًا على عائلات بعض القتلى، خصوصًا من اليهود الشرقيين والروس وبعض الدروز والبدو، مقابل التكتم على خسائره. كما أنَّه لا يعلن جيش الاحتلال عن القتلى من المرتزقة الذين يقاتلون في صفوفه.
– “المجندون الوحيدون”، وهم الذين فقدوا عائلاتهم، أو جاؤوا إلى كيان الاحتلال دون عائلات، و”المجندون اللقطاء”، وهم جنود “إسرائيليون”، لكن دون كشوف مدنية، وهؤلاء لا يتعامل معهم العدو إلا كأرقام، ويدفنهم في مدافن خاصة بهم، وفي العادة يتم الزج بهم في مقدمة الصفوف.
لماذا يعترف ببعض الخسائر الثقيلة؟
يعترف العدو ببعض الخسائر مضطرًا لذلك، لطبيعة القتلى من أبناء العائلات والضباط وغيرهم، ممن لا يمكن إخفاء حقيقة مقتلهم، وكشوف المستشفيات ومراكز الجرحى والتأهيل والطب النفسي والمقابر، التي لا تستطيع أن تخفي أعداد ما يصلها من القتلى والجرحى.
إضافةً إلى توثيق المقاومة الفلسطينية لكثير من عملياتها ضد جيش الاحتلال، وضعت مصداقيته أمام جمهوره على المحك، لذا لا بد من الإعلان ولو عن بعض الخسائر.
صدمة مجتمع
هذا وتحدثت وسائل الإعلام الصهيونية عن خسائر فادحة في صفوف الجيش، ونقلت عن بيانات طبية أن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وأن المقابر تستقبل أعدادًا هائلة من الجثث، وتشير التقارير إلى افتتاح مراكز لتأهيل أعداد كبيرة من العسكريين الذين أصيبوا بعاهات مستديمة جراء المعارك، ومن بين هؤلاء المئات ممن أصيبوا بالعمى.
وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن قسم إعادة التأهيل في جيش الاحتلال يستقبل يوميًا نحو 60 جريحًا جديدًا، من القوات الأمنية والاحتياطية، ولا يشمل ذلك العدد جرحى القوات النظامية.
وكشفت منظمة معاقي جيش الاحتلال أن عدد جرحى الجيش نتيجة الحرب في قطاع غزة قد يصل إلى 20 ألفًا “إذا أدرجنا مصابي اضطراب ما بعد الصدمة”.
كما كشف موقع “والاه” الإسرائيلي مطلع كانون الثاني/يناير الجاري عن إصابة 4 آلاف جندي صهيوني بإعاقات منذ بداية الحرب على قطاع غزة، مرجحاً ارتفاع الرقم إلى 30 ألفًا.
أمراض نفسية
هذا، وكشفت بيانات جديدة صادرة عن “المعهد الوطني لأبحاث السياسات الصحية” الصهيونية، عن صورة قاتمة لآثار الحرب على الصحة العقلية والنفسية لـ “الإسرائيليين”.
واستعرض رئيس جمعية الصحة العقلية في المجتمع الصهيوني “الدكتور إيدو لوريا”، بيانات تتوقع أن يعاني ما يصل إلى 625 ألف شخص في كيان الاحتلال من أضرار نفسية، نتيجة معركة طوفان الأقصى والحرب التي أعقبتها على قطاع غزة.
وبحسب تقييم أولي أجرته مجموعة بحثية بالتعاون مع الجامعة العبرية في القدس، وجامعة كولومبيا، قد يصاب ما بين 60 و80 ألف شخص بأعراض تخلف عقلي خطير ومستديم، بسبب الصدمة من الهجوم المفاجئ والحرب.
كما سيصاب ما يصل إلى 550 ألف شخص بأمراض وأزمات نفسية متفاوتة، وذلك وفقاً للمجلس الوطني الصهيوني للصدمات، وتقرير “ماكينزي” الصادر عنه.
وفي تقرير بعنوان “الحرب أوقعت نظام الصحة النفسية في أزمة” نشرته وسائل إعلام العدو، فقد كشف النقاب عن أن عددًا لا يحصى من الصهاينة بحاجة إلى الرعاية الصحية العقلية، في وقت لا يزال نظام الصحة النفسية العام يفتقر إلى الآلاف من الأطباء النفسيين.
وفي التقرير تقول الاختصاصية النفسية الدكتورة هداس شهرباني صيدون إن الخط الساخن للإسعاف النفسي يستقبل أكثر من 3 آلاف مكالمة يومياً، مقارنة بـ700-800 مكالمة في اليوم العادي، ونحو 1500 مكالمة يومياً خلال جائحة كورونا (كوفيد-19).
ووجه منتدى مديري مراكز الصحة النفسية في كيان الاحتلال رسالة إلى السلطات المختصة قال فيها “نتوجه إليكم يائسين بشأن الوضع الصعب لنظام الصحة العقلية في “إسرائيل””.
وأشارت الرسالة إلى أن “أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي أدت إلى ما يقدر بنحو 300 ألف مريض إضافي يحتاجون إلى العلاج على يد متخصصين مدربين”.
وفي السياق، قالت هيئة البث الإسرائيلية إن جمعية الإسعافات الأولية العقلية تلقت أكثر من 100 ألف طلب مساعدة نفسية منذ بداية الحرب على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.