نهاية إسرائيل: بالضربة القاضية أم بالنقاط؟
سؤال يطرح بقوّة على أثر الهزيمة العسكرية البالغة التي أصابت الكيان الصهيوني في عملية «طوفان الأقصى» وفي استمرار الفشل العسكري والعجز عن تحقيق أي من الأهداف رغم اقتراب الحرب من شهرها الثالث. لقد ظهر الكيان منفعلاً متوتّراً يستشعر تهديداً وجودياً، يفتّش عن إنجاز فيجده في قتل المدنيين والأطفال واغتصاب كل القيم التي تميّز البشر، مبرزاً حقيقته كامتداد للحضارة الغربية المأزومة. فما دام أنّ الكيان يعاني ما يعانيه من عجز، وما دام أنّ أميركا راعيته تعاني هذا القدر من الارتباك والتخبّط والفشل في مقاربتها لـ«طوفان الأقصى» بل للقضية الفلسطينية والمنطقة برمّتها: لماذا يا ترى لا تُبادر القوى المقاوِمة لهجوم يُنهي «إسرائيل» ويستأصل شأفتها ويُقضى الأمر؟!أولاً، نسجّل أنّ طرح هذا السؤال يعتبر دليل عافية وثقة بقوى المقاومة وإيماناً بقدرتها على صناعة تحول تاريخي. لكنّ الإجابة لا شكّ تحتاج إلى مقدمات ضرورية سنحاول في هذا المقال إجمالها من دون أن ندّعي شمولها كلّها.
بعيداً عن نقاش المباغتة كنقاش تقني عسكري وأهميتها، وعن شراء الوقت لبناء القوّة وتعزيزها كمبدأ، يبقى للسؤال عن هجوم واسع ينهي الكيان الصهيوني له وجاهته، خصوصاً أنّ محور المقاومة لم ينفكّ يوماً يؤكد تحضّره وتجهّزه لخوض هذه المعركة وهزيمة «إسرائيل» (علماً أنّ هذه التصريحات والمواقف كانت تأتي في سياق الرّد على تهديدات العدو وفرضية ابتدائه بالهجوم): إنّ تحرير فلسطين ليس عملية عسكرية بحتة ليتم بعمل عسكري حاسم، فهناك مزيد من الحيثيات والنظرات والسياقات والتحدّيات المحتملة التي يجب أن تؤخذ في الحسبان لشدّة تداخلها وتخادمها.
فبأي سياق يأتي الفعل العسكري، وبأي بيئة، وبماذا يرتبط، وكيف تتصل الخطوات نحو التحرّر الشامل وتجنّب المخاطر المتوقعة. فتحرير فلسطين يعني صنعة نظام إقليمي بديل أو خطوة حاسمة على هذا الصعيد. وأن نبادر لحرب تحريرية يعني الاستجابة لسؤال السياسة وشموله إلى جانب الفعل العسكري. فكلاهما إلى جانب بعضهما البعض يصوغان المسار ويحددان خطواته. بينما لو كنّا ندافع (نحن بالمعنى الكلّي في موقع الدفاع) فيكفي أن نُفشل العدوان وأهدافه حتّى لو لم ننضّج رؤية خلال وما بعد.
وهل أن نقوم بهذه المعركة كدول، بالمعنى الرسمي، أفضل أم كقوى وفواعل غير دولتية كحركات مقاومة؟ إنّ التحدّي لبلوغ فلسطين غايتها في التحرّر وطرد الهيمنة يقترن بالفعل الفلسطيني ومحوريته أولاً، إذ لا تحيّد أي مساعدة خارجية من ثقل المركز، أي مقاومة للشعب الفلسطيني، في أبعادها الإنسانية والقومية والقانونية. وتجربة أمّتنا مع المقاومات الشعبية تبدو أكثر فاعلية لتحقيق الهدف من مشاركة دول بالمعنى الكلاسيكي. فالمواجهة مع إسرائيل وأميركا بمنهجية الحروب اللامتناظرة أفقدت العدو كثيراً من مزايا تفوّقه. ولمّا كانت إسرائيل كياناً غير ذاتي النشأة والاستمرار، إنّما وظيفي أداتي عميل للغرب وأحد نماذج الهيمنة الغربية وطرائقها وواحد من أساليبها، فإنّ مواجهتها وإسقاط مشروعها هو جزء لا يتجزّأ من مواجهة الهيمنة الغربية ويتلازم مع خطاب التحرّر العالمي وعمليته.
فالسير في هذه المعركة لبلوغ هدفها النهائي ليس أحادياً ولا يجب أن يكون كذلك. لا يجب أن نستغرق في إسرائيل على حساب غيرها من مجالات الهيمنة ومظاهرها رغم محورية إسرائيل في الصراع الجاري بين «الهيمنة والتحرّر» في منطقتنا والعالم، ومن دون الاستغراق في المقاربة العسكرية على حساب بقية المجالات والزوايا الحساسة. فالعقل الهيمني له طبقات ونماذج وتمثلات، ورقة عمله كبيرة ومشبّكة منذ عقود، وهو ولّاد لمصاديق وأساليب متكثّرة دائماً ما يقابله في الجانب الآخر من يحمل استعداداً لقبول التسلّط والهيمنة وروح التبعية والخضوع.
إنّ عِبرَ التاريخ كفَتنا مؤونة التنقيب لفهم هوية قوى الهيمنة العالمية وعلى رأسها أميركا وحقيقتها الإمبريالية، فتراها تدمن العيش على الصراعات والفتن والحروب وتأجيجها وانتهازها للتجديد، وكثيراً ما يدوّرون هيمنتهم ويُحورونها طالما لم يصابوا باليأس. وليس خافياً أنه لا تزال أجزاء من الإقليم تعيش محو الذات أمام الغرب! بينما يعيش بعض آخر على وتر المعادلة بين منظومة الهيمنة من جهة، وقوى المقاومة من جهة.
لذلك، فالأمر أبعد من أن نتعاطى مع إسرائيل بذاتها أو أن نقارب الصراع معها من البوابة العسكرية، إنّما هو نظرة شاملة وفعل مركّب تتحرّك أجزاؤه جنباً إلى جنب، تنتج ديناميكية وعي أعمق لأهمية التحرّر ورفض الاستعباد وضرورتهما، وتطلّع للانتقال إلى مربع استعادة الثقة بالذات وصولاً إلى إقناع الخائفين والمترددين بمستقبل ممكن لهم تحت الشمس شريطة خروجهم من حظيرة الهيمنة الأميركية.
نحتاج إلى مقاربة تسير بالدفع والتدرج على السواء. فمقولتنا أنّ الصراع مع إسرائيل صراع حضاري تعني أنّ إدراكاً وقدرة وشمولاً وتصعّداً في الوعي والإرادة والإيمان بالقضية يجب أن تتوافر، أثناء المواجهة وبعدها، بما يضمن النتيجة ويثبّت الخاصية الحضارية للانتصار المأمول. المعادلة التي نسير إليها ونجدّ الخطى والتكتيك نحوها هي سيرورة بناء القوّة بالمعنى الحضاري ومفرداته، حتّى لو عازت بعض الوقت. فالوقت لمصلحة إرادة قوى المقاومة وليس لمصلحة إرادة أعدائنا. ساعتئذ سنجد أنّ الغرب البراغماتي والشوفيني والمتكبّر يتعاطى مع شعوبنا بطريقة أخرى ويُذعن لمنطقنا وقد يتخلّى عن إسرائيل إذا ما استمرّت فاتورة تكلفتها في الازدياد مقارنة بمردودها.
لو تأمّلنا مليّاً سنلحظ أنّ هذه السيرورة تتحقّق نتائجها بثبات وقوّة. حققت عملية «طوفان الأقصى» حتى اللحظة نتائج باهرة وتاريخية. انظروا إلى المجتمعات في الغرب والعالم سترونها بدأت تطرح أسئلة جديدة غابت عنها في محضر قولبة العقل والتلاعب به. ها هي تنتقد وتشكّك في الحضارة الغربية وليس فقط في السياسة الخارجية. تريد أن تقول: لماذا تهن حضارتنا وتعاني من أزمة؟ وما من شكّ أنّ تسريع مفاعيل هذه الأسئلة وتعميقها وزيادتها هي مصلحة إنسانية كبرى على المديَين المتوسّط والبعيد، لكنّها تعتمد علينا أولاً، وعلى تخطيطنا وأمانة قضيتنا وجوهرها.
كيف تُهزم إسرائيل وننتصر نحن؛ أي كيف تنتصر شعوبنا لقيمها وهويتها وهدفها التحرّري وموقعها المأمول في العالم الجديد الذي تشكّل معركة غزّة إحدى أخطر ساحات تناقضاته واختناقاته وأشدّها معنى. وإذا كانت القراءة لما يحدث اليوم في غزّة في كونه مفصلاً متّصلاً بالعالم الجديد، فهذا يعني أنّ مزيداً من إعداد الأرضية وتهيئتها وتحسين الظروف هي مطلوبة لتقرّبنا من الهدف النهائي. وما نراه في غزّة اليوم هو عبرة وفكرة وأمثولة للجميع في فهمهم لحقيقة الصراع وأبعاده ولمستقبله وسبل بلوغنا الانتصار النهائي فيه. هو صورة مصغّرة في بعض جوانبه عمّا سيجري في المنطقة مع فوارق توافرت في غزّة وقد تكون غائبة في المنطقة، ما يتطلّب نهجاً خاصاً للعمل عليها ما أمكن.
في الفوارق، إنّ معركة غزّة تمتاز، أولاً، باحتضان شعبي عالمي لا يمكن توافره في أي معركة أو صراع آخر، إذ تلتقي الحقوق الطبيعية بالدينية وبالوضعية، وتمتاز بتلاحم كبير بين الشعب ومقاومته وجاهزية لتحمّل الأعباء. بينما في الإقليم، بعض يراهن على إسرائيل ويربط مستقبله بها ويتربص بالمقاومة كخطاب وثقافة، فضلاً أن تكون قوّة فيزيائية الدوائر. وآخر ديماغوجي لا يشغله إلا البحث عن دور وسلطان في الركام وبين الأشلاء، فقوله مع غزّة وفعله مع عدوها. بينما يرى آخرون في إسرائيل عنواناً للموازنة مقابل محور المقاومة. ما يعني أنّ المشهد الإقليمي مبعثر جداً وفيه نقاط ضعف عدة. وعليه، يُحتمل احتمالاً معتدّاً به أن تكون المقاومة أمام فوضى عارمة في الإقليم، بينما تخوض الحرب الكبرى بمواجهة الغرب وإسرائيل مجتمعَين وأدواتهما في الإقليم من دول وجماعات (فمثلاً الاتجاهات التكفيرية لم نرَ منها ولو فعلاً واحداً في معركة الصراع مع إسرائيل والانتصار لغزّة، بل وجدناها تنفّذ عمليات بمواجهة محور المقاومة والممانعة في سوريا، ما يعني أنّ أولوية هذا الاتجاه التكفيري، بما يمثله من امتدادات، لا تزال هي الطعن الداخلي لمصلحة مشروع الهيمنة الغربي). وبعض يبحث عن ملاذ وينافح على رغيف خبزه ولا يعيش همّاً آخر.
إذاً، لا تزال شرائح غير قليلة من الأمّة في أولويات مختلفة بعضها يتكامل مع أميركا وإسرائيل. أمّا عالمياً، فروسيا والصين لا تزالان تبحثان عن أدوار بعيداً عن أي تحدٍّ جدّي للنفوذ الأميركي في منطقتنا، سوى أنّهما لا تريدان نصر أميركا، ولا يعني أنّهما تريدان هزيمتها فضلاً عن هزيمة إسرائيل. لا يزال اهتمامهما يرتبط بمصالحهما في صراعهما مع أميركا ليس إلا، وتنتظران لحظة البازار الكبير والمقايضة.
خلاصة القول، إنّ قوى المقاومة والمحور ستكون أمام حرب مركّبة في قبالة الغرب وبعض الأنظمة العربية وبعض اتجاهات الإقليم المفرّطة والمفرطة، مضافاً لمواقف صينية وروسية متأرجحة دولياً وتتقدّم بحسابات خاصة بها وليس باعتبارات مبدئية أو لجهة حقّانية ومشروعية القضية. لكن هل يعني ذلك أنّ عملية التحرير لن تتم من دون إنجاز كل ذلك؟ بالطبع لا. لكن يجب أن تتساير كل هذه الأمور بالتوازي، ونتقدّم بكل منها ما أمكن لبلوغ نصاب يمكّننا من بلوغ الانتصار كمشروع حضاري وهزيمة إسرائيل.
ولسائل أن يسأل (سؤالاً اعتراضياً): ألن يدخل محور المقاومة حرباً كبرى دفاعاً فيما لو واجهت أيّ من قوى المقاومة وحلقاتها تهديداً وجودياً؟ حينها نكون أمام سياق آخر، وبالتالي منطلق آخر للمقاربة، فلا يعود الكلام مرتبطاً بحيثيّتَي الهجوم والدفاع كما تقدّم، بل بحيثية أخرى هي هزيمة المقاومة في فلسطين كفرضية. هذا يعتبر خطاً أحمر كبيراً لمحور المقاومة، بكل الاعتبارات الأمنية والعسكرية والجيوسياسية والثقافية والدينية والأخلاقية، وحتّى لو أدّى إلى حرب إقليمية. وربّما نحَت قوى المقاومة للدخول المتدرّج على خط الحرب من اليوم الثاني، ولو بمقادير مختلفة، ربطاً بكل ساحة، لاستطلاع الميدان وتبيّن مجمل أبعاده وفرصه وتحسّس المبررات المعوزة للمشاركة الفاعلة فيه، كأنّ أحد أهدافها كمن في الاحتكاك بالميدان وبناء العُلقة اللازمة. فمراقبة تطور الرأي العام وتحولاته، وعجز آلة الحرب الإسرائيلية وسلوك القيادة الصهيونية الفاقد للتوازن، والصمود الفلسطيني الأسطوري وبسالة المقاومة، ومواقف الأنظمة والشعوب وتقييمها، ومراقبة أداء روسيا والصين وتعاطيهما مع الحدث، والتخبّط الأميركي، واغتصاب القيم التي ادّعاها الغرب ذات يوم، كلّها عوامل ساعدت في استكشاف أرضيات وحيثيات وسياقات أفضل لمبررات أي تصعيد مستقبلي محتمل إذا ما آن أوانه أو إذا ما اقتربت إسرائيل من أهدافها.
عوداً إلى الموضوع، فإنّ منطق الصراع وسيرورته يقومان على ضرورة أن نعمّق من الوعي للقضية الفلسطينية، ونضعف من تأثير إسرائيل وأميركا وظيفياً، ونزيد من إرادة المناهضة للهيمنة الأميركية عالمياً وفي كل قارة، وتقريب أنظمة عربية وإقليمية بعيداً عن الحظيرة الأميركية الغربية بتفعيل التشبيك واقترابات المدرسة الوظيفية ولغة المصالح، ورفع كلفة مخاطرتهم في استمرار اعتمادهم على أميركا، وتعميق الاحتجاج بحقيقة أنّ أميركا وإن رغبت أو أرادت لا يعني أنّها قدرت، لأنّ التباين بين الرغبة والقدرة يزداد. وربّما نجدّ لتنويع اللاعبين على طاولة المنطقة، ولو بالشكل، ونستمرّ في بناء القوّة لمحور المقاومة. بالأمس كانت أميركا أقل قوّة وأكثر تأثيراً في العالم، بينما هي اليوم أكثر قوّة وأقلّ تأثيراً. كل ذلك يفترض أن يسير بالتوازي والتكامل والتخادم مع المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل واستنزافها وإفشال أيّما مقاربة أميركية غربية التفافية وإسقاطها. فكل من هذه العبارات الآنفة هي أمارة من أمارات العالم الجديد الذي يتولّد من مخاض «طوفان الأقصى» وطوفان غزّة.
إذاً، إنّ مواجهة إسرائيل جزء لا يتجزأ من مواجهة الهيمنة بشمولها، هي عملية اقتراب شامل وكلّي لا جزئي أو أحادي لإضعاف هيمنة أميركا والغرب في إقليمنا والعالم، جنباً إلى جنب مع قتال إسرائيل ومراكمة النقاط. فلا يمكن انتصارنا على إسرائيل من دون استمرار العمل بدأب لإضعاف الهيمنة والنفوذ الأميركيين في كل ساحات الإقليم، بل والعالم إن استطعنا. كما أنّه لا يمكن إضعاف الهيمنة الغربية الأميركية من دون استمرار مراكمة الإنجازات في الصراع المباشر مع إسرائيل.
وعليه، يمكن أن ندّعي القول إنّ السير البطيء لمحور المقاومة ومراكمة أبعاد القوة المتنوّعة والحد من آثار نقاط الضعف واستكشاف الفرص السياسية والإستراتيجية ما أمكن لاقتناصها، تبدو حاجة ملحّة لتحقيق الانتصار لرؤية المقاومة ومنطقها وإرادتها، وليس فقط هزيمة إسرائيل عسكرياً.
هذا المسار متدرّج وبطيء نوعاً ما، نعم، ولكنّه مضمون النتائج (نعيد فنؤكّد أنّ هذا المسار يبقى قائماً طالما لم تفرض حرب على محور المقاومة من الغرب والصهيونية وطالما لم تصل قوى المقاومة في فلسطين إلى التهديد الفعلي). حريّ النظر إلى قضية فلسطين أنّها ليست أمّ التحديات فقط، بل القضية التي من رحمها تتولّد أفضل فرصة تاريخية للتعريف برؤيتنا الحضارية ومعالمها، فالمقاومة نهج وفلسفة حياة ورسالة تحرّر فعلي وحاجة لعالمنا القادم وسرّه. ونجاحنا في تحدّي إسقاط الهيمنة الغربية، وبالذات إسرائيل، يعني النجاح في قضايا غيره أسهل.
نعم، إنّ سقوط إسرائيل يعني انهياراً تاماً لنظام إقليمي قديم وولادة جديد، والتحرير ليس خطوة، إنّما مشروع متكامل يفترض اتصالاً عميقاً بين الخطوات ووضوحاً وجلاء للتالي. هو ليس ردّ فعل أو عملاً لإنجاز الخطوة الأولى فقط، هو سعي إلى إزاحة المعوقات في طريقنا نحو الهدف والغاية، ولا شكّ أنّ إسرائيل أبرز المعوقات.
إنّ دروس التاريخ الحديث، وبالذات القرن العشرين مع فارق المشروعية والقضية وحقّانيتها، كان من عبرها أنّ من هزم النازية ليس بالضرورة انتصر، هم دفعوا الأكلاف وأميركا قطفت. فدول مثل بريطانيا وفرنسا عادت وسلّمت مصيرها للهيمنة الجديدة. لذلك، لا يصحّ أن نخوض السياسة بانفعال، فنحقّق نهاية لمصداق هيمنة اسمها إسرائيل ونترك الفراغ الإستراتيجي ليملأه آخرون، أو أميركا نفسها بطريقة أخرى، هل هذا ما نريد؟ إنّ محور المقاومة يرى ميزته في سعيه إلى تحقيق الأهداف التي سعى من أجلها وقدّم من أجلها آلاف الشهداء وعظيم الأثمان، هو ليس بحاجة إلى إثبات الذات ولا يُمتحن في مضمار المقاومة والفداء. هي الأهداف والأخلاق التي تحرّكه وفقط، فصبرٌ وتحمّل مع إمكانية عالية لتحقيق الهدف خير من انفعال غير مضمون النتائج ومُخاطرة وفوضى قد توصلان إلى تحوير جديد لأدوات الهيمنة أو إعادة تدوير لها. بعد عقود من الإنجازات، يجب العمل بشجاعة، ولكن أيضاً بأناة وحكمة والتفكير في كسب المعركة وترتيب الظروف وتهيئتها رويداً رويداً للوصول إلى الهدف النهائي.
لا يعني، ولا يجب، أن يُفهم من الكلام أنّ محور المقاومة، أو أي من حلقاته، لا يجب أن يبادر لعمليات كبرى تقدّرها كل ساحة على حدة كما حدث في «طوفان الأقصى» – فلكلٍّ حقّه في التقدير وعلى الجميع الاحتضان والمساعدة والالتزام بتثمير الجهد كأصل وقاعدة لا نقاش فيهما. ولا يجب أن يكون، ولم يكن يوماً، شرط مساعدة ونصرة كما ذهب البعض في خياله، فهذا يُفقد المحور حيويته وخصوصيته وميزته. إنّ المقاومة التي نريد أن نقدّمها للناس، هي فعل مبادرة غائي يتميّز بإرادة حرّة وليست مشروع كسب سلطة أو إحياء سلطان.
اليوم، تقترب «طوفان الأقصى» وقضية فلسطين لتكونا بداية صفحة جديدة في المنطقة، بل والعالم بأسره، لتخليق واقع جديد. فحلّ الدولتين مات وانتهى ولا فائدة من محاولات إحيائه، وأميركا لم تعد ولن تعود ولا يمكنها أن تكون يوماً ضامناً أو راعياً أو مشرفاً على صياغة تسويات بعد أن أوغلت كمحارب بالدم العربي والفلسطيني والمسلم لعقود كان آخرها تعاطيها مع «طوفان الأقصى». يعترف قادتها السياسيون، أو غالبيّتهم، أنّهم صهاينة، ما يجعلنا نقول إنّها «نظام صهيوني كبير» وإنّ أيديولوجيتها صهيونية. لذلك، قد تكون مضطرّة أن تبحث عن آخرين في العالم لحماية مصالحها، لكنّ ذلك سيكسر احتكارها لقضايا المنطقة كمقدّمة لكسر احتكارها في مختلف القضايا العالمية، وما يعنيه من دخول مرحلة ما بعد الأحادية. الوقائع ستفرض عليها التنازل وتقديم مقابل للآخر، أو تكون أمام مزيد من الخسارات. خصومها ومنافسوها يتأهّبون لقبض الثمن من حساب الغرب. أمّا محور المقاومة، فلن يتوانى عن كل سعي يخدم هدف فلسطين بالسير إلى تحرّرها الكامل وتَعزُّز مكانتها. المشهد العالمي تبدّل كثيراً وإسرائيل التي عرفناها، والغرب الذي بنى إمبراطوريته على الاستعمار والقوة والعسكرة يتفاجأ بمحدودية القوّة اليوم والبارحة وكل يوم، حتّى لو بان أنّه يعيد حضوره وأساطيله إلى الإقليم مجدداً. قريباً، سيتنهّد من سُباته ويكتشف حجم تداعيات «طوفان الأقصى» والأسئلة الجديدة التي تركتها في الوعي البشري، وستُرى آثارها تباعاً على كل صعيد وفي ساحة وميدان وقارة.
«طوفان الأقصى» ليست إلّا تعبيراً لعالم تبدّلت بنيته التحتية وانهار سقفه، عالم يشبه لحظة اقتحام المقاومين لمنظومة أميركا وقدراتها التقنية عند غلاف غزّة وكسر أسطورة تفوّقه وتهشيمها.
حتّى الآن، فلسطين ربحت، ومعها محور المقاومة، رغم عظيم التضحيات، وتقدّمت مكانتها على صعيد البنية والمكانة، وإسرائيل تهاوت مكانتها وقيمتها الدولية وعند «شعبها» هبوطاً مدوياً، فضلاً عن أنّها فقدت أهمّ عامل حاكت على أساسه سرديتها، «دور الضحية»، فصارت القاتلة في نظر الرأي العالمي. وأميركا تدخل تخبّطاً رهيباً بين رغباتها وقدرتها، وتنتظرها انتخابات يصعب توقّع مسارها وتداعياتها عليها قبل غيرها. والغرب بمجمله ينتظر تحوّلات تاريخية بعد اهتزاز حائط دفاعه الأمامي «إسرائيل» وتصدعه. لقد دخلنا مع «طوفان الأقصى» عالماً جديداً سيفيض أسئلة ويحمل بذور مفاجآت كبرى. ليس على أميركا إلّا أن تعترف مرغمة بعجزها عن التعاطي معه وأن تخرج من وهم قوّتها إلى الواقع، وتتخلّى عن روح الهيمنة فيها – فهل تقدر على ذلك؟ ستكون مجبرة بقبول آخرين ومشاركتهم كأنداد لها على طاولة حل معضلات العالم المتفاقمة وقضاياه. وكلّما تعزّزت هذه الحقيقة، معطوفة على ما راكمناه ونراكمه من شمول عناصر المواجهة كقوى مقاومة، وعزّزناها بعد «طوفان الأقصى»، سنكون حينها ليس أمام النهاية الفعلية لإسرائيل والهيمنة الغربية في المنطقة فقط، بل أيضاً أمام ظهور خط المقاومة والتحرّر وخطابهما كلاعب عالمي في النظام المتولّد.
* باحث لبناني
بلال اللقيس / الأخبار